حينما تطرق القرآن الكريم لذكر الكافرين مثلهم بتمثيل واحد، فقال: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾[البقرة:171]. قال المفسرون: معناه: ومثل داعي الإسلام مع الكافرين من المشركين وغيرهم كمثل راعي البهائم الذي يصيح بها، فلا تسمع منه إلا الصياح، ولا تفهم أو تعقل ما يقول. فالداعي كالراعي، والكفار كالبهائم في عدم فهم ما يقوله الراعي. وإنما مثلهم بتمثيل واحد؛ لأن أمرهم واضح لا خفاء فيه، ويكفي في تعقله تمثيل واحد.
وحينما تطرق لذكر المؤمنين مثلهم بتمثيل واحد – أيضاً: فقال: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[الفتح:29].
أي: أن مثل المؤمنين في التوراة والإنجيل ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾ (أي: فراخه) ﴿فَآزَرَهُ﴾، أي: فعاونه، ﴿فَاسْتَغْلَظَ﴾ الشطأ، فاستوى على سوقه، أي أن المؤمنين في مؤازرتهم لبعضهم وفي تناميهم وتكاثرهم كالزرع الذي يخرج فراخه، فيغذيها حتى تستوي على سوقها. وإنما اكتفى بتمثيلهم بتمثيل واحد، لوضوح أمرهم وعدم خفائه، وأنه يكفي فيه مثال واحد يقربه إلى الذهن، ويخرج المعقول مخرج المحسوس.
وأما حينما عرض لموضوع النفاق والمنافقين، فإنه مثلهم بثلاثة تمثيلات: اثنان منها جاء على صورة التشبيه الصريح، وواحد على صورة الاستعارة، وما ذلك التعدد في التمثيل والتنوع فيه إلا لأن أمرهم فيه من الخفاء والتلون ما يستدعي أن يشبهوا بعده تشبيهات صريحة وغير صريحة، وذلك حتى يتعقل الذهن الصورة المتعددة التي يمكن أن يصور بها حالهم في الدنيا والآخرة ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، فقد صورهم على النحو التالي:
الصورة الأولى: تمثيلهم – على سبيل الاستعارة – بذلك التاجر الذي اشترى بدراهمه ودنانيره صفقة من البضاعة، وعندما أخذ الصفقة، وتأملها وجدها فاسدة لا تصلح للاستفادة منها لا بالبيع ولا بالاستخدام قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾[البقرة:16].
أي: أنهم استبدلوا الضلالة بالهدى، فهم في حالهم هذا – في الدنيا والآخرة كحال ذلك التاجر الخاسر لدراهمه ودنانيره وصفقته. فتخيلوا معي مدى البؤس والشقاء والخيبة... التي ستنتاب هذا التاجر الخاسر!! هذه هي حال من أحوال المنافق في الدنيا والآخرة.
الصورة الثانية: تمثيلهم – على سبيل التمثيل الصريح – بمستوقد النار في الليلة الظلماء ليستضيء ويستأنس بها من الوحوش والهوام الزاحفة إليه، وبينما هو مستأنس بها، انطفأ – فجأة – فإذا هو في ظلام دامس. وفي حالة خوف وهلع من تلك الوحوش والهوام التي تحاصره من جهة، ومن جهة أخرى فإن النار التي انطفأت ولم تخمد تصيبه من حرارتها، وهو لا يستطيع مفارقتها خوفاً من تلك الهوام والوحوش، فهو كالواقع بين فكي كماشة: حرارة النار، ومحاصرة الظلام والوحوش والهوام قال تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾[البقرة:17].
أي: مثل المنافقين في أخذهم الحق ابتداء، ثم نكوصهم عنه كمثل الذي استوقد ناراً فاستضاء بها في أول الأمر، ثم انطفأت، فأمسى في ظلام دامس لا يهتدي فيه إلى ما يريد، هذه هي الصورة الثانية للنفاق والمنافقين.
الصورة الثالثة: تمثيلهم بصاحب مطر شديد، فيه ظلمات شديدة ورعد يصك الآذان، وينخلع له القلب خوفاً وفرقاً، وبرق يكاد يذهب بالبصر، وهو يبحث عن ملجأ ومكان يأوي إليه فلا يجده، فكان كلما هَزَمَ الرعد جعل أصابعه في أذنه، وكلما لمع البرق مشى قليلاً، فإذا ذهب ضوء البرق وقف في ظلمة شديدة، قال تعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ [البقرة: 19 - 20].
فهذا مثل آخر ضربه الله للمنافقين؛ إيضاحاً بعد إيضاح وكما يحسن للبليغ أن يجمل ويوجز في مقام يقتضي الإيجاز – كما فعل القرآن في حالي المؤمنين والكافرين – فكذلك يحسن له أن يفصل ويطنب في مكان التفصيل والإشباع. وخلاصة القول هي: أنه تعالى شبه المنافقين في التشبيه الأول – الاستعارة – بالتاجر الخاسر، وشبه استبدالهم الضلالة بالهدى بالبضاعة الفاسدة تشترى بالدراهم والدنانير، وفي التمثيل الثاني شبههم بالمستوقد نارا، وشبه إظهارهم للإيمان بالاستيقاد وشبه انتفاعهم بالإضاءة، وشبه انقطاع الانتفاع بانطفاء النار، وفي التمثيل الثالث شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وشبه ما يتعلق بالإسلام من شبه المنافقين بالظلمات، وشبه ما في الإسلام من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وشبه ما يصيب الكفرة من البلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق، والتشبيه الثالث أبلغ من الأول والثاني؛ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفضاعته؛ ولذلك أخر؛ لأنهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ. فاللهم بصرنا بعيوبنا وجنبنا النفاق والمنافقين!!
كتبه الدكتور عبد الواحد بن عبد الله الخميسي رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الإيمان
تخريج وتنسيق: عبد الكريم علي الفهدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق