إنَّ للشريعةِ منهجاً لا يمكن خلطه بالطرق العقليَّة المجردة. والمتأمِّل في ممارساتِ بعض المتفقهة حينَ يجدُ أمراً مخالفاً أو محتملاً مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة الكلي، أو أمراً قدْ قرَّره العلماء، والدليل ناطقٌ بصحتهِ، نجدُ مخالفةً لهذا الأمرِ، فقدْ يقع في حيرةٍ في الكليِّ؛ بسبب وقوفه على المخالفةِ، أو ما فيه احتمال مخالفةٍ، أو يستميتُ في نفي المخالفةِ،-كما في بعض المناقشات والمناظراتِ- وكأن الأمر إذا صحَّ فقد انتقض المنهج بالكلية!
وابتداءً فإنَّ القضيَّة الكلية تُعرفُ بأنها ما حكم على موضوعها حكماً كليَّا. والقضيَّة قد تكون عقليَّة، وقد تكون شرعيَّة، فإنْ كانت القضيَّة عقليَّة ذهنيَّة لم يجزْ أن تنخرمَ، فلو تخلَّف حكمُ جزءٍ عن حُكْمِ الكُلِّ انتقضتْ، فمنَ القضايَّا الكليَّة –مثلاً-: أنَّ كلَّ عددٍ زوجي ينقسم على اثنين، ، فلو وُجِدَ –فرضاً- عدد زوجي لا ينقسم على الاثنين، انتقضتِ القضيَّةُ، وزالَ عنها وصفُ الكليَّة.
وأما القضيَّة الكليَّة الشرعيَّة فلو تخلَّف بعض جزئياتها لمْ تنتقض؛ لأنها مبنيَّةٌ على الاستقراء، وعليهِ فإنَّ تخلف بعض الجزئياتِ لا ينقضُ كليَّة القضيَّة، وهكذا كلُّ قضيةٍ استقرائية، فمنَ القضايا الكليَّة الاستقرائية –مثلاً-: أنَّ كلَّ حيوانٍ يحرك فكَّه الأسفل عند المضغ، ولا ينقض هذهِ الكليَّة كونُ التمساح يحرِّكُ فكَّه الأعلى؛ لأنَّ معنى القضيَّة هنا بعدَ العلم بحالِ التمساح: كلُّ حيوانٍ يحرك فكَّه الأسفل حين المضغ إلا التمساح؛ لأنَّ العمدة في تقرير هذه القضية أساساً هو الاستقراء، بخلاف العقليات التي تعتمد على النظرِ والبحثِ –كما قرَّرَه أبو إسحاق الشاطبي- [الموافقات، 2/52].
وفي الفقه حينَ يتتبع المتفقِّه أثارة الوحي، ويستعرض فتاوى الصحابة، ومنْ بعدهم من التابعين، وذوي القرون الفاضلة، يجدُ أمامه منهجاً واضحَ المعالم، بارزَ الفروعِ، كُليَّاً، مستنداً على نصوصٍ واضحةٍ، لا يخرمه قولٌ، أو فعل، فيتقرر هذا الأمر في نفسهِ، ويجزم بهِ جزماً لا تردُّد فيه، ولا يتطرق له ريبٌ، ولا شكٌّ.
وقد تكونُ حيرة البعضِ حين الوقوف على المخالفةِ، أو الاستماتةِ في نفي المخالفة تأثراً بقولِ المناطقةِ: "القضية الكليَّة تنتقض بالصورة الجزئية"، ففيها يُتصور أنْ يكون تخلف بعض الجزئياتِ قادحاً في الكليِّ؛ فـ "ما ثبت للشيء ثبت لمثله عقلًا"، فلا يمكن فيه التخلُّف ألبته، إذ لو تخلَّف لم يصح الحكم بالقضية القائلة: "ما ثبت للشيء ثبت لمثله"، وقد فاتهم الفرق بين العلوم الصورية (forma ) والعلوم التطبيقية.
ومنْ أمثلة ما يتخلَّف فيهِ الجُزئي، ومع ذلك قد أخذَ حُكم الكليّ، في الضروريات: أنَّ العقوبات إنما شُرعت للازدجار، مع أنَّ البعض قدْ يعاقب فلا يزدجر. وفي الحاجيات: فإنَّ القصر في السفر إنما شرع للتخفيف، وقدْ لا تلحقُ المُترفِّه مشقة، ومع ذلكَ فالقصرُ في حقِّهِ مشروعٌ. وفي التحسينيات: فالطهارة إنما شرعتْ للنظافةِ، مع أنَّ بعضها على خلافِ النظافة، كالتيمم.
ومثالُ ما تخلَّف حكم الكليَّ عنهُ مع كونه داخلاً فيهِ: أنَّ حكمةَ وجوبِ الزكاة هيَ الغنى، وهي موجودة في مالكِ الجواهرِ النفيسةِ -كالماس مثلاً-، ومع ذلك أخذَ حكماً آخرَ، وهو عدمُ وجوب الزكاة.
والحاصلُ أنَّ تخلف الجزئيات في الكليات الاستقرائية غيرُ قادحٍ في أصل المشروعية؛ فالأمر الكلي إذا ثبت كلِّياً، وتخلفتْ بعض جزئياتهِ عن مقتضى كليَّتهِ، لمْ يخرجْ عن كونه كلِّياً، واعتبارُ الغالب الأكثري في الشريعة اعتبار العام القطعي يدُلُّ عليهِ؛ لأنَّ المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يُعارض هذا الكلي الثابت.
وتخلُّف حكم الكليِّ عن الجزئيّ قد لا يكون مخالفةً في الحقيقة، وما يظهر أنَّه قد تخلَّفَ عن حكمِ الكليِّ إنما تخلَّف لِحكَمٍ خارجة عن مقتضى الكلي، فلا يكونُ الجزئيّ من أفراد الكليّ، فلا يصح الاعتراض بتخلفها؛ لأنها خارجة عنه، أو تكون داخلةً لم يظهر للمتأملِ دخولها، أو داخلة عنده، لكنْ عارضها ما هي به أولى.
كما أنَّ المتفقِّهُ قد يتوصَّلُ–أحيانا- إلى حكْمَةٍ ما، وهي في الحقيقةِ لا تعدو أنْ تكونَ بعض ما رعاهُ الشارع، لكنْ ثمَّ أمر آخر أعم منه يراعى ويكون مطرداً، فالمشقة –كما سبق- قد لا تلحق المُترفِّه، لكنَّ الفقيهَ لا يحكمُ عليه بناءً على ذلك؛ لخفائها، والمعاقبُ بالعقوبةِ قدْ لا يزدجر، فيُدْركُ الفقيهُ أنَّ المصلحة ليستْ محصورةً بالازدجار، بل إنَّ الشارعَ قد رعى –أيضاً- كونها كفارة؛ لأنَّ الحدودَ كفارات لأهلها، وإن كانت زواجر.
والخلاصة أنَّ الكليات الشرعيَّة في الفقه أو الاعتقاد وغيرها لا تُنقض بتخلُّفِ بعض الجزئيات؛ لأنَّ الكلي لا يُقابل بجزئي مثله، بل يقابل بكلِّي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق